تحت وطأة عجقة سيارات نصف مليون عكاري وشاحناتهم تمرّ قسراً في ساحة حلبا، ينبعث صوت خفيف لا يجرؤ على المجاهرة حتى لا يبدو «نشازاً». هنا يقبع «بيت الموسيقى» الذي أسّسه هيّاف ياسين عام 2008، وافتتح فرعين له في طرابلس وبيروت بهدف «بعث الموسيقى الكلاسيكية العربية»
عكار | كلّ المداخل المؤدية إلى ساحة حلبا لا توحي بما يطمئن. من شمال الساحة تمرّ عبر مستشفى عكار حيث يفترش أهالي المرضى درج المستشفى، إذ لا قدرة لهم على دخول الكافيتريا وشراء فنجان القهوة. وقبل بلوغ الساحة يستطيع من يتحرّى أخبار الطلاب الجامعيين أن يعلم إلى أي درك بلغه استهتار بعض قادة عكار بجموع أبنائها حتى يقدّموا لهم بقية من مبنى مدرسة رسمية متهالكة ليكون مقرّ شعبة للتعليم الجامعي. ومن الجهة الجنوبية، جدار علا صراخ القاطنين قربه، منذ شهور، خوفاً من سقوطه عليهم، من دون مجيب، عدا عن مركز مأمور نفوس حيّ تنبعث منه رائحة النفايات ورطوبة الطابق في سرايا حلبا ملاذ المحتاجين إلى ورقة القيد كلما لاحت في الأفق معالم دورة تطويع في الجيش أو قوى الأمن.
ومن الجهة الغربية يرتفع نصب شهداء مجزرة حلبا. أما في الساحة، حيث اقتُلع تمثال الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، (وكان قد هلّل لتدشينه كلّ الطيف السياسي الذي يرفع لواء السيادة اليوم)، فقد حُشر المنادون بإسقاط النظام الطائفي.
وسط هذه اللوحة السوداء يقبع «بيت الموسيقى». كأن اختيار المكان جاء ليؤكد أن الموسيقى الأصيلة لا تنبع إلا من رحم الوجع والمعاناة. يهدف «بيت الموسيقى» في النجدة الشعبية اللبنانية، كما يسمّيه مديره الإداري كامل منصور، إلى تعليم التراث الموسيقي المشرقي العربي في مواجهة «الهشك بشك وغسل الأدمغة بواسطة الموسيقى المبتذلة». وقد تأسّس عام 2008 في عكار، وأصبح عدد روّاده 350 طالباً، يتخرّجون بعد ثماني سنوات بشهادة دبلوم في الموسيقى، بالتعاون مع المعهد الأنطوني. ميزة البيت الموسيقى، بحسب منصور، أنه «لا يتقاضى أقساطاً، بل بعض البدلات البسيطة لتأمين الحدّ الأدنى من أجور الأساتذة، علماً بأن العديد من القيّمين على البيت الموسيقى شبه متطوّعين». ويوضح أن فكرة بيت الموسيقى الذي افتتح فرعين في طرابلس وبيروت، ترتكز على جهود هيّاف ياسين ابن بلدة البرج في عكار. فمن يكون هذا الشاب الصاعد؟ وما هي منطلقاته؟ وكيف تطوّرت فلسفته الموسيقية؟ وصولاً إلى مشروعه في بعث الموسيقى الكلاسيكية العربية؟
هياف ياسين ابن أسرة متواضعة، لم تمتهن إلا الرياضة والموسيقى. والده عبد السلام ياسين مدرب فنون القتال، وهو عازف على آلة العود، ومخرج للعديد من الحفلات الفنية. والدته تدرّس الرياضة، وأخوه الأوسط نال درجة الماجيستر في الرياضة. أما أخوه الأصغر، فهو طالب سنة ثانية رياضة. من هذا الوسط الفني الرياضي خرج ياسين لتعلم الموسيقى، فحاز إجازة في التربية الموسيقية من الجامعة اللبنانية عام 2005، وماجيستر في العلوم الموسيقية من الجامعة الأنطونية عام 2006، وهو الآن في صدد إنهاء أطروحة دكتوراه بعنوان «التقليد الموسيقي المشرقي العربي الفني: نمذجة التقليد ونمذجة الانتقال» في جامعة الروح القدس في الكسليك.
بثقة المتيقن من نتائج أبحاثه يندفع في طموحه للكشف عن أزمة الموسيقى الكلاسيكية العربية «وارتباطها بأزمة الثقافة العربية بفعل تواطؤ حكام العرب مع القوى الاستعمارية بعد زوال الإمبراطورية العثمانية». يتحدث ياسين عن مشروعه، من دون أن تحركه اندفاعته للتباهي والتحليق في عالم نجوم الفن، لأنه لا يزال يئن تحت عبء أقساط الجامعة الخاصة، وهو ابن الأسرة المتواضعة.
يسرد ياسين مخاض تكوّن شخصيته الفنية والموسيقية قائلاً إنه لم يتقبّل الموسيقى الكلاسيكية العربية في مرحلة مراهقته: «لا يعقل أن يعزف طفل صغير موسيقى (أنا في انتظارك)، لذلك بدت الموسيقى الغربية لي أعلى شأناً، ما دفعني إلى التعلق بها، لكنني اكتشفت لاحقاً أنها تدور في حلقة مفرغة، فلجأت إلى موسيقى الجاز التي نشأت بفكر مناهض للموسيقى الكلاسيكية الأوروبية في أوساط السود الذين استُعبدوا، وصارت لديهم موسيقاهم، بما فيها من حزن وتحدّ مبنيّ إيديولوجياً على كسر التوافقات (الهارمونيا) والقواعد الموجودة في الموسيقى الغربية، وهكذا بقيت حتى عام 2000. وبينما كنت في كلية التربية، دُعيت إلى حفل في الأونيسكو كان فيه عازف سنطور إيراني، غلام رضا مشايخي. لم أكن أعرف ما هو السنطور. جلست في الكرسي الأخير، لم أكن أرى آلة العزف، لكنني سمعت عزفاً جميلاً يلامس أعماق المشاعر والأحاسيس. وقبل تلك المرحلة كنت أتصادم مع أستاذي نداء أبو مراد، وهو من أنصار الموسيقى العربية، وأطرح عليه أسئلة في سياق مخاض يبدو أن أستاذي بسعة ثقافته استوعب أنه قد يؤدي إلى انتقالي باتجاه الموسيقى العربية. وعندما سألته عن إمكان عزف الموسيقى العربية على آلة السنطور، لم يفاجأ، بل أهداني الآلة، وكانت آلة غريبة بتداخل أوتارها، كما قدّم لي كتاباً سميكاً يتعلق بتلك الآلة. لم يمض وقت طويل حتى أتقنت الضرب عليها، فأقمت أكثر من حفلة ناجحة، ما دفعني إلى تأليف فرقة للموسيقى الكلاسيكية العربية خريف عام 2003».
تابع دراسته لهذه الآلة ليكتشف أن السنطور دخل إلى أوروبا وسمّي آلة السيمبالوم في القرن الخامس عشر، «أخيراً أجريت تعديلات على توزيع الأوتار في تلك الآلة، وحزت براءة اختراع السنطور المشرقي، وسجّلته في دائرة حماية الملكية الفكرية والأدبية في لبنان عام 2005»
الأخبار - ١٨ حزيران ٢٠١١
القسم : القسم الرئيسي - الزيارات : [1997] - التاريخ : 18/6/2011 - الكاتب : administrator
Development by: ziad Farhat